2

مُتْعتُك فيها بسلامتِها وقيامها بوظائفها ، متعةُ السمع والمعرفة، ومتعةُ البصر والابتهاج ، والاطلاع والدراية..! ولذلكَ كان تعطلُهما سببا في الحرمان ، وفقدانِ أجلِّ الحواس ..!

وهما آلتانِ للعلم والفهم والاستبصار في هذه الحياة ( وجعل لكمُ السمعَ والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون ) سورة القلم .

ومن المتعةِ بها تصريفُها في العلم والقراءة ، واستخلاص عوائد ذلك ومخارجه ، بحيث يرتقي الإيمان ، ويتسعُ الفكر، وتعظمُ الأذكار ، وتزداد السعادة والانشراح . وفِي ذلك إيناسٌ لك ولها ، وتوظيفٌ لك ولدورها ، وجعلها طرائقَ صالحةً للتزود والانتفاع .

ومن الخيبةِ ، العيشُ بها في الدنيا بلا اتعاظ وانتفاع، وتطبيعُها على سالف الناس ودروبهم . فلا تُنتج خيرا، أو تُنمّي فكرة، أو تصنعُ حكمة…!

قال في التحفة :” ( ومتّعنا ) من التمتيع : أي اجعلنا مُتمتعين ومنتفعين ( بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ) أي بأن نستعملَها في طاعتك . قال ابن الملك : التمتعُ بالسمع والبصر إبقاؤهما صحيحينِ إلى الموت
( ما أحييتنا ) أي مدةَ حياتنا .

وإنما خصّ السمعَ والبصرَ بالتمتيع من الحواس ، لأن الدلائل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده ، إنما تحصل من طريقهما . ولأن البراهين إنما تكون مأخوذةً من الآيات وذلك بطريق السمع أو من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفس فذلك بطريق البصر ، فسأل التمتيع بهما ، حذرا من الانخراط في سِلك الذين ختم اللهُ على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ولما حصلت المعرفةُ بالأولين يترتب عليها العبادة ، فسأل القوة ليتمكنَ بها من عبادة ربه قاله الطيبي . والمراد بالقوة قوة سائر الأعضاء والحواس أو جميعها فيكون تعميما بعد تخصيص”.

فلنقدرْ جميعنا فضلَ هاتين النعمتين، وما وضعه الله فيهما من قوة وقدرة على التفاعل الكوني واستعلام ما يجري حولنا، وفاقدهما يستشعر ذلك، ويفوته خير كثير، واستعداداته تكون متأخرة ..!

ومن المؤسفِ استعمالُها في معاصي الله، فتسرحُ الأبصار في المناكر الحسان، وتُفتح الآذان للأنغام والأسماع المحرمة .

ومتعةٌ ثالثة في ” القوة ” الممنوحة لك جسدًا وتحركا وتفاعلًا ، وهي تشمل كل الجسد بما فيه الحواس ، فتندمج مع الحياة عملا وبذلًا، وسيرا ورزقا ودفاعًا وسفرًا . فلا يوقفك هزال، ولا يصدُّك مرض، أو تعيقك شقاوة .

ومثلُ هذه القوة الجسمية تحقق لك الانطلاق في الحياة، ومكابدة أرزائها، وممارسة الشعائر في أحسن صورة ، وليتَ شعري كيف حالنا حينما نشاهدُ العجزةَ والمرضى عبّاداً ومعتكفين..! وودَّ بعضُهم لو عادت به الظروف، واستطعم الملاذَ السابقة ، وفِي ذلك درسٌ وعبرة .

وقارنْ بين صحيحين مكتملي الحواس والقوى، أحدهما تزود بها علما ودينا، والثاني عاش بها عبثًا وهملا..! كم بينهما من النورِ والسعادة..؟! وأشنعُ منه ، من ادخرها للحرام ، وخاض في الأوهام ، وظن أنه على شيء… وهو بلا شيء، والله المستعان…!

استحضرْ هذا الدعاء كثيرًا ، لا سيما عند ختمِ المجالس، ومشاهدة الفقر والبؤس ، أو التورطِ في ظروف ومشاق.. فقد كان صلى اللهُ عليه وسلم يختم به مجلسه، ليعلِّمَ صحابتَه قدرَ هذه النعم الخفية ، وأن لدينا نعماً وأفضالاً، قد ننساها ولا نتفكر في غيابها أو نقصانها ( وإن تَعُدوا نعمةَ الله لا تحصوها ) سورة إبراهيم والنحل . فاللهم متّعنا بها ، ووفقنا لشكرها.