2

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
من الفتاوي التى طَلَّت برأسها في زماننا: القول ببدعية صيام العشر ([1]) الأُول من
ذي الحجة، فكتبت هذه المقالة؛ لبيان ضعف هذا الكلام، وإظهارًا لعواره، ووزنه بميزان الشرع، وحكم التعامل مع القائل .
وهذا المقال يتضمن مسائل، وهي:
أولًا: مذاهب العلماء في حكم الصيام في عشر ذي الحجة.
ثانيًا: أدلة عامة وخاصة تدل على استحباب صيام عشر ذي الحجة.
ثالثًا: بيان بعض مَن ورد عنه صيام هذه الأيام من السلف.
رابعًا: بيان بعض مَن ورد عنهم من السلف إقرار صيام هذه الأيام.
خامسًا: بيان مُتَمَسَّك مَن قال ببدعية المواظبة على صيام العشر الأُول من ذي الحجة، والجواب عليه.
سادسًا: حكم القول ببدعية صيام العشر الأُول من ذي الحجة.
سابعًا: حكم التعامل مع قائل هذا القول.
(( فإن يكُ صوابًا فمن الله ، وإن يَكُنْ خطًأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان )) ([2])
فأقول بحول الله تبارك وتعالى:
أتعجب جدًا ممن يقول أن صيام العشر الأُول من ذى الحجة بدعة !!
؛لأن هذا كلام لا يصدر من رجل له نظرة فقهية، أو طَالع كتب أهل العلم .

وهذا الكلام غلط منافٍ للصواب، وإليك بيان ذلك:

(( أولًا )):كيف يكون بدعة ؟!
وقد اتفقت كلمة العلماء على استحباب صيام هذه الأيام: فقد اتفقت المذاهب الأربعة على استحباب صيام  هذه الأيام ، ووافقهم الظاهرية .
وإليك بيان ذلك :
(( أولًا )) المذهب الحنفي:

جاء في كتاب (( بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع )):
« وأما صوم التطوع : فالأيام كلها محل له عندنا  »([3]) .
وجاء في كتاب (( الفتاوى الهندية )):
« ويستحب صوم تسعة أيام من أول ذي الحجة »([4]) .

(( ثانيًا )) المذهب المالكي:

جاء في كتاب (( مواهب الجليل لشرح مختصر خليل )):
« ( وعشر ذي الحجة ) يعني : أنه يستحب صيام عشر ذي الحجة ….. »([5]) .
وجاء في كتاب (( الشرح الصغير على أقرب المسالك )) :
قوله : « وندب صوم الثمانية الأيام قبله ــ عرفة ــ  »([6]) .

(( ثالثًا )) المذهب الشافعي:

جاء في كتاب (( روضة الطالبين )):
« ومن المسنون صوم عشر ذي الحجة غير العيد »([7]) .
وجاء في كتاب (( تحفة المحتاج بشرح المنهاج )):
« ( و ) يُسن ، بل يتأكد صوم تسع ذي الحجة ؛ للخبر الصحيح المفضي لأفضليتها… »([8]) .
جاء في كتاب (( نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج )):
« ويسن صوم الثمانية أيام قبل يوم عرفة كما صرح به في ( الروضة ) سواء في ذلك الحاج وغيره …… »([9]).
وجاء في كتاب (( النجم الوهاج بشرح المنهاج )):
« ومن المسنون :صوم عشر ذي الحجة.
وهذه الأيام وإن كانت داخلة في صوم الحجة فلها مزية على باقيه ، وألحق بها الغزالي مقابلها من المحرم »([10]).
وجاء في كتاب (( حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب )):
في معرض الكلام على صوم التطوع ، قال الشارح :
« قوله: ( وتسع ذي الحجة ) أي: التسع من أوله . وهذا التعبير أولى من تعبير بعضهم بـ ( عشر ذي الحجة )؛ لأنه يدخل في ذلك يوم العيد، مع أنه لا ينعقد …. »([11]) .

(( رابعًا )) المذهب الحنبلي: 

جاء في كتاب (( الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف )):
« (( ويستحب صوم عشر ذي الحجة )) بلا نزاع. وأفضله: يوم التاسع : وهو يوم عرفة ، ثم يوم الثامن: وهو يوم التروية. وهذا المذهب ، وعليه الأصحاب…. »([12]) .
وجاء في كتاب (( شرح منتهى الإرادات )):
« ويُسن صوم ( عشر ذي الحجة ) أي : التسعة الأُول منه ؛ لحديث (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر )) ، ( وآكده يوم عرفة ، وهو ) أي : صومه ( كفارة سنتين ) ([13]).
وجاء في كتاب (( كشاف القناع على متن الإقناع )):
« ويُسن ( صوم التسع من ذي الحجة ) لحديث ابن عباس مرفوعًا : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر ، قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء )) رواه البخاري ([14]) .

(( خامسًا )) المذهب الظاهري:

جاء في كتاب (( المُحَلَّى بالآثار )):
« مسألة: ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر ؛ لما حدثناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( ما من أيام أحبّ إلى الله فيهن العمل أو أفضل فيهن العمل من أيام العشر ، قيل: يا رسول الله ، ولا الجهاد ؟ قال : ولا الجهاد ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء )) قال أبو محمد : هو عشر ذي الحجة ، والصوم عمل بر …. )) ([15]) .

(( ثانيًا )):كيف يكون بدعة ؟!

وقد دل على استحباب صيام هذه الأيام أدلةٌ عامة وخاصة :
(( أما الدليل العام )) :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( ما مِن أيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فيها أحَبُّ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن هذه الأيَّام –يَعني: أيَّامَ العَشرِ- ، قال: قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ، إلَّا رَجُلٌ خرَجَ بِنَفْسِهِ ومالِهِ، ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بِشَيءٍ  )) ([16]) .
وجه الاستدلال:
( العمل الصالح ) لفظ عام ، يدخل فيه الصيام .
(( وأما الدليل الخاص )) فمُختلَف فى ثبوته :
عن هُنَيْدَة بن خالد عن امرأته عن بَعضِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ قالَت :
(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يصومُ تسعَ ذي الحجَّةِ ، ويومَ عاشوراءَ ، وثلاثةَ أيَّامٍ من كلِّ شَهْرٍ : أوَّلَ إثنينِ منَ الشَّهرِ والخميسَ )) ([17]) .

(( ثالثًا )):كيف يكون بدعة ؟!

وصيامها مَرْوِي عن جماعة من السلف، ومنهم:
ابن عمر _رضى الله عنهما_ ([18]) ، ومحمد بن سيرين ([19]) ، ومجاهد ([20])  وعطاء ([21])  ،
وقد ورد في فضل صومها عن: ابن سيرين ، والحسن ، وقتادة ([22]) .

(( رابعًا )):كيف يكون بدعة ؟!

وقد أقره جماعة من السلف: عندما سُـئـلـوا عن تقديمه على قضاء رمضان ، فقالوا بتقديم قضاء رمضان ، ولم ينكروا على السائل أنه يريد صيام عشر ذي الحجة، وما قالوا: صيام هذه الأيام بدعة _ ومنهم من كره التطوع بصوم لمن عليه قضاء إلا العشر _ وممن أقره:
” أبو هريرة (رضى الله عنه) ([23])، والحسن ([24])، والنخعى ([25]) وسعيد بن جبير([26]) ” .

(( خامسًا )):كيف يكون بدعة ؟!

ولم يقل بذلك أحد من السلف ــ فيما نعلم ــ .
– مَـنْ مِـن السلف قال بأن صيام هذه الأيام بدعة ؟
أخبرونا إن كنتم صادقين !!
قال الإمام أحمد ( رحمه الله ):
« إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام » ([27]) .
ــ ولذلك أقول : مَن قال : ( صيام هذه الأيام بدعة ) فقوله هو البدعة .
وهـــو قـــول شــاذ مــردود عـلـى قائله .
سُـئلَ الشيخ ابن باز ( رحمه الله ):
ما رأي سماحتكم في رأي من يقول : صيام عشر ذي الحجة بدعة ؟
قال : « هـذا جـاهـل يُـعـلَّـم …. » ([28]) .
(( مُتَمَسَّك من قال ببدعية المواظبة على صيام العشر الأُول من ذي الحجة ))

مَن قال ببدعية المواظبة على صيام العشر الأُول من ذي الحجة استدلوا على ذلك:

ما ورد في صحيح مسلم ، أن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت:
(( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط )) ([29]) .
الجواب عن هذا الاستدلال :
أجاب العلماء عن حديث عائشة بأجوبة ، منها:

(( الأول )):
أن حديث عائشة ( رضي الله عنها ) غاية ما فيه: نفي ، وحديث أم سلمة فيه إثبات، والمثبت مقدم على النافي.

قال الإمام البيهقي ( رحمه الله ):
والمُثْبِتُ أولى مِنَ النَّافِي ، مَعَ ما مضى من حديث ابن عباس ([30]) .

(( الثاني )):

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك بعض العمل خشية أن يُفرض على أمته .
قال الحافظ ابن حجر ( رحمه الله ):
« ولا يَرِد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: (( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا العشر قط )) لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله؛ خشية أن يفرض على أمته …. »([31]) .

(( الثالث )):

أنه لم يصم العشر لعرض أو مرض، أو أن: عائشة لم تره .
قال الإمام النووي ( رحمه الله ):
قال العلماء : هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشرة ، والمراد بالعشر هنا: الأيام التسعة من أول ذي الحجة ، قالوا: وهذا مما يُتأول؛ فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا، ولا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة؛ وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه – يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة – » فيُتأول قولها : «لم يصم العشر » أنه لم يصمه لعارضِ مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائمًا فيها؛ ولا يلزم عن ذلك عدم صيامه في نفس الأمر. ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ، ويوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر : الإثنين من الشهر والخميس » ورواه أبو داود وهذا لفظه  ، وأحمد ، والنسائي ، وفي روايتهما ( وخميسين ) . والله أعلم  . ([32])

(( الرابع )):

أن عائشة ( رضي الله عنها ) نفت صيام العشر كلها ؛ لأنه معلوم أن صوم العاشر ( الأضحى ) حرام ، وقيل غير ذلك من الوجوه .

(( تـنـبـيـه مهم )):

ــ لو قال بهذا القول رجل من أهل العلم والاجتهاد من العلماء، تُـحفظ له مكانته وعِلمه وعَمله للدين، وقوله الشاذ مردود، ولا نعمل به، مع حفظ مكانة هذا العالم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( رحمه الله ):
(( إن الرجل الجليل الذى له في الإسلام قدم صالحة وآثار حسنة ، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا ، قد تكون منه الهفوة والزلة -وهو فيها معذور مأجور- لا يجوز أن يُتبع فيها ، مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين )) ([33]) .
وإن كان أحد المُـتَـعَـالِـمِـين  _كما هو حال البعض _ فهذا جاهل يُـعلَّـم، ويُنصح، ونبين للناس أنه ليس من أهل العلم .
والله أعلم …
وبالله التوفيق …