IMG_3994

الملك سعود: شجاعة الحماية وجرأة البناء

 

الملك سعود بن عبدالعزيز (1319-1388=1902-1969م) هو الابن الثاني للملك عبدالعزيز بعد شقيقه الأكبر الأمير تركي الأول (1313-1338) الذي به يُكنى الملك المؤسس، وهو ثاني ملوك المملكة العربية السعودية، والأول من ستة إخوة حكموا البلاد -حرسها الله- بعد والدهم المؤسس، وهي سلسلة أفقية نادرة في تاريخ أسر الحكم حسبما أعلم، والله يحفظ البلاد والعباد، ويسبغ عليها وعليهم مزيد الأمن والنماء والإيمان والحماية.

وللحماية مع الملك سعود وقائع يجب ألّا تغيب عن سيرته؛ فأولها أنه تصدى للمجرمين الذين تجرأوا بالاعتداء الآثم على الملك عبدالعزيز في المسجد الحرام يوم عيد الأضحى عام (1353= 15 من شهر مارس 1935م)؛ فصار يوم الحج الأكبر عيدًا مضاعفًا بالتمام والنجاة. وفي ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شهر رجب عام 1362= 22 من شهر يوليو عام 1943م، شبّ حريق كبير في غرفة المؤن بقصر الأمير سعود المجاور لقصر والده الملك عبدالعزيز بالمربع، فأدار سعود مسألة إنقاذ عائلته ومن معهم، وحمل بنفسه والدته الأميرة وضحى بنت محمد الحسين العريعر، وحمى بذلك أمه وعائلته والعاملين في القصر من النار والدخان وتوابعهما المهلكة.

كما شارك الملك سعود منذ يفاعته في حروب الاستعادة وملحمة التوحيد مع والده في عداد جيشه، أو على رأس الجيوش في معارك أخرى، وكان بذلك أحد دروع الحماية لفكرة المشروع الذي تبناه الملك عبدالعزيز، وسعى لتثبيته على أرض الواقع. وبعد أن شاء الله بأن تنزل بالبلاد وأهلها مصيبة رحيل موحدها ومؤسس دولتها الثالثة الحديثة في الثاني من شهر ربيع الأول عام 1373= التاسع من شهر نوفمبر عام 1953م؛ كتب الله لها الحماية بعد فضله بولي العهد الأمير سعود بعد أن صرم سنوات عديدة من الخبرة في الحكم والقيادة على مرأى من والده، أثمرت ما حصل من التفاف إخوانه وبقية الأسرة حوله ملكًا مبايعًا على السمع والطاعة.

وخلال سنوات حكم الملك سعود بين عامي (1373-1384=1953-1964م) حمى ولي الأمر وسليل الحكم العريق بلاده وحدودها، وأناسها وتصوراتهم، من عدوان أفكار غريبة على مجتمعنا، ومن كيد أصحابها المتربصين علنًا أو في الخفاء، وكان سدًا منيعًا يحول دون تسرب آثار انقلابات عسكرية متوالية تجيد الصراخ واللجج والتعبئة، وتحيط بنا من الجهات المجاورة كافة. ولم يرضخ الملك الجديد لمكائد دول عظمى أرادت الانتقاص من السيادة الوطنية والممتلكات السعودية، ودفع مكرها قدر استطاعته مع مراعاة المصالح والاعتبارات التي تمليها السياسة الشرعية الواسعة لمن تدبرها.

ثمّ قضى الله بحكمته عقب أحد عشر عامًا أمضاها الملك سعود سيدًا على عرش البلاد وأمرها، وملكًا متوجًا موقرًا مطاعًا محبوبًا، أن يكتب له حسنات الوئام، وثواب البعد عن المزالق، والعصمة من الفتن؛ فجمع الله به الكلمة العامة، وعزز به الحماية التامة للدولة والنظام المستقر فيها، بمبايعته لخلفه وأخيه الملك فيصلملكًا على السعودية في السابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام 1384= الثاني من نوفمبر عام 1964م، وما تلاها من انصراف الأخ الأكبر بجلال ومودة تحفه الدعوات، وتقدّر شجاعته العقول الرزينة، والآراء الرشيدة، وينصفها التاريخ وأساطينه.

أما البناء في عهد الملك سعود فمما لا تخطئه عين مشاهد، ولا يفوت على علم متابع، وهو استمرار لنشاطه إبان ولايته للعهد، ذلك أن جلّ الوزارات وأكبر المستشفيات وأول الجامعات والمعاهد نشأت في عهده، وانتقلت كثير من الأجهزة الحكومية إلى العاصمة الرياض التي بدأت تتوسع في الشوارع والميادين والبناء والحدائق العامة أو الخاصة بالحيوانات للفرجة والمتعة، ولأجل بلوغ هذا المطلب أوفد الملك إلى مدن عالمية الأمين الأول للرياض الأمير فيصل الفهد الفرحان كي يرى نماذج التطور فيها، وينقل لعاصمة الجزيرة العربية الملائم منها. ولم يكن هذا الانتقال إلى العاصمة يسيرًا؛ فجدة أحب آنذاك لكثير من الموظفين، ولتيسير عملية الانتقال هذه بادرت الحكومة إلى بناء مساكن لكبار الموظفين في حي الملز، وحرصت على تذليل العقبات كافة، وصناعة مدينة عصرية قدر المستطاع.

وقد استقدمت حكومة الملك سعود العديد من الخبراء من خارج المملكة لكتابة التنظيمات وأساليب الإدارة وتجويد الموجود منها ومراجعتها، ولإنشاء معهد الإدارة، وإكمال أعمال مؤسسة النقد التي تعدّ من أوائل البنوك المركزية في العالم والمنطقة. ومع بروز آراء معارضة لإنشاء أول جامعة بحجة نقص الجاهزية، وقلة الحاجة وعدد الطلاب، ووجود البديل الإقليمي، إلّا أن الملك سعود مضى في مشروع إنشاء جامعة الملك سعود، وعاونه في ذلك إخوانه وأنجاله وعلى رأسهم وزير المعارف الأول الأمير -الملك- فهد، وكان في ذلك الخير وحسن العاقبة.

كذلك يحفظ التاريخ لعهد الملك سعود قفزات نوعية على صعيد التنظير أو التطبيق؛ مثل صدور بعض الأنظمة وعلى رأسها نظام مجلس الوزراءالجديد في 22 من شهر شوال عام 1377= 11 من شهر مايو عام 1958م، وبداية تعليم الفتيات في المملكة تعليمًا رسميًا، وإصدار قرار بإلغاء الرق وتحديد التعويض المالي عنه، وإنشاء التلفزيون، والتوسع في الأعمال الزراعية والنفطية والإعلامية والصحفية والترفيهية والرياضية، وبعض هذه القرارات صدرت إبان رئاسة الأمير -الملك- فيصل لمجلس الوزراء في عهد الملك سعود، فهي من تاريخهما المشترك الذي لا ينقص من حقّ أحدهما شيئًا.

وللملك سعود سجل حافل من الزيارات المحلية والإقليمية والدولية، ففي زياراته المحلية افتتح مشروعات، وأكمل أخرى، وتكفل باسم الحكومة بإتمام منجزات أهلية صحية وتعليمية، واشتهر بفيض الكرم المباشر والعطاء الجزل لعامة الناس حتى وصفته الألسن بأبوة الخيرين لا خيرًا واحدًا فقط. وفي تحركاته الإقليمية ساند الكويت، ودعم مصر مع دول المواجهة، ودحض أكاذيب بعض المناوئين حول سياسة المملكة نحو الوحدة المصرية السورية، وهي وحدة ينغص عليها الواقع على الأرض من جملة عوائق أخرى؛ ولذلك لم يكتب لها النجاح. ولم يتوقف الأمير والملك عن متابعة السفر في جولات دولية لصالح دولته وأمته وقضية فلسطين، مع المشاركة في لقاءات تخص منظمات إقليمية ودولية، والدعوة لأول مؤتمر إسلامي في مكة عام (1381=1961م).

ومن أشهر زياراته تلك الزيارة التاريخية لفلسطين؛ فهو أول أمير سعودي يزور القدس والديار الفلسطينية عام (1935م) في رحلة مذكورة مشهودة محتفى بها، ولذا ظلت تلك الديار المقدسة حاضرة في خطب الملك ومباحثاته، وله اعتراض معلن على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة آنذاك. وفي أيام العدوان الثلاثي عام (1956م) ساند مصر بالخيارات المتاحة أمامه حينها، وهي خيارات شجاعة وجريئة، وتحمّل من جراء ذلك الضغط على موارد البلاد المالية بعد نقص عوائد النفط التي كانت تصدر لبريطانيا وفرنسا، ولم تمنعه بعض الإشارات الواردة في الخطب الناصرية التأجيجية من التردد في قرار الانحياز مع مصر ضد المعتدين.

كذلك للملك سعود أوليات وفرائد، منها أنه أول ولي عهد للمملكة العربية السعودية، وأول رئيس لمجلس الوزراء بصفته وليًا للعهد ثمّ ملكًا، وأول ملك يرتدي الزي العسكري تشجيعًا لمواطنيه على الالتحاق بالكليات والمعاهد العسكرية والأمنية التي أسس بعضها في عهده، وهذه الأولية ذكرها نجله الأمير د.سلمان. وقد يتساءل البعض كيف يلبس الزي العسكري وهو لم يتخرج في كلية عسكرية؟! وإنه لسؤال مشروع تجيب عنه بالحجة البينة المقنعة مشاركاته الحربية التي تغني عن سنوات من الالتحاق بالكليات العسكرية النظرية.

ومن فرائد الملك سعود أنه عقد مجلس الوزراء في يوم واحد مرتين لمتابعة آثار تصريحات عبدالكريم قاسم العدائية ضدّ الكويت، واستمر انعقاد المجلس قائمًا لحين انجلاء الأزمة. وللملك سعود موقف سياسي داعم لاستقلال الكويت، وانضمامها للجامعة العربية بإصرار سعودي لا تراجع عنه، مع مساندة قبولها عضوًا في الأمم المتحدة. وله موقف عسكري شجاع بإرسال أول قوة عربية للمشاركة في الدفاع عن الكويت، وزيارتها آنذاك تعبيرًا عن التضامن والمصير المشترك.

أيضًا من فرائده أن جلسة مجلس الوزراء برئاسته رفعت بسبب كسوف الشمس وذهاب المجتمعين لأداء سنة صلاة الكسوف، ومنها أنه عقد إحدى الجلسات في القطار بين الرياض والدمام، وهذه المعلومة تحتاج لمزيد توثيق وتأكيد. ومما تفرد به الملك سعود أنه الأكثر ذرية بين أبناء الملك عبدالعزيز؛ إذ رزق الملك سعود بثلاثة وخمسين ابنًا، وبسبع وخمسين بنتًا، وكثرة الإنجاب لا تعني بالضرورة أنه الأكثر زواجًا بين أقرانه، وقد استدعت كثرة الأولاد أن يختار الملك أسماء لهم غير متكررة في أسرته الملكية العريقة، والله يحفظ ويزيد ويبارك، علمًا أن عدد النسل المرتفع شائع في الثقافة العربية الأصيلة.

وللملك سعود مواقف عظيمة لا تُنسى، منها أنه أمر سفيره في بغداد الشيخ إبراهيم السويل أن يستقبل من لجأ إليه من بقية أفراد الأسرة الهاشمية الحاكمة عقب انقلاب عام (1958م)، وهو انقلاب عسكري دموي، فقد أبت شهامة الملك سعود إلّا أن يؤمِّن من استنصر به، ويتناسى أيّ خلاف سابق، ولا يلتفت لأيّ آثار محتملة على العلاقة مع الحكومة الجديدة. وحين سافر الملك سعود لأمريكا، كسر البيت الأبيض التراتيب المعتادة، وخرج الرئيس الأمريكي لاستقبال الملك الكبير بنفسه خلافًا للمعهود.

ومنها أنه قبّل جبين أخيه الأمير -الملك- خالد حينما انتصر لامرأة اعتدى أحد الرجال على عرضها؛ والقصة رواها كاملة الأمير المؤرخ سعود بن هذلول في لقاء تلفزيوني مع د.عبدالرحمن الشبيلي. ومنها أن الملك سعود صلّى إمامًا بجموع الحجيج صلاة الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في جامع نمرة يوم عرفة في موسم الحج من أعوام (1374 و1378 و1379)، وأمّ المسلمين في صلاة المغرب بالمسجد الحرام، وتقدّم المصلين في مركز إسلامي بني على نفقة المملكة في واشنطن.

وسمعت في لقاء تلفزيوني مع الوجيه الشيخ فيصل الشهيل أجراه الكاتب الأستاذ محمد رضا نصر الله، أن الملك سعود زار الطلبة السعوديين المبتعثين إلى لبنان للدراسة في الجامعة الأمريكية، فاستعظم خلو المناهج الدراسية من المواد الدينية واللغوية، وأوكل إلى السفارة في بيروت علاج هذه المشكلة؛ فتعاقد الملحق التعليمي الشيخ عبدالمحسن المنقور مع أساتذة مهرة لتدريس طلاب المملكة علوم الدين واللغة، وحجز لهم قاعات دراسية داخل مبنى الجامعة حفاظًا على أوقات الطلبة، وتابع الملك إنجاز هذا الأمر حرصًا على عقول الدارسين وقلوبهم وهويتهم. وللملك غيرة لغوية ظاهرة جعلته يقترح تغيير اسم نادي الأولمبي الذي حمل بناء على التوجيه الملكي اسم نادي الهلال حتى يومنا.

ومن شجاعة الملك سعود ما جرى في القصة المروية عن الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن دغيثر؛ فالقرار الأول للملك شجاع وفيه رباطة قلب وعزيمة ماضية، والقرار الثاني شجاع وفيه وفور عقل وبعد نظر. وإن تفهم الملك لموقف أحد موظفي الديوان الملكي، وقبول العذر منه، لموقف شجاع وفيه حسن إدارة وتشجيع لمن يعمل معه، ولا يخفى أن توافق الملك مع أخويه الأميرين فيصل وسلطانتوافق شجاع يتعالى على نوازع العزة الجبلّية، وفيه رعاية للمصلحة، وكمال تقدير للعواقب.

ومما يروى أن الملك سعودي عندما يتحدث عن آماله المستقبلية، وما ينوي تدبيره لصالح البلاد، كان بعض من حوله يشعرون بصعوبة تحقيق هذا المراد كله أو بعضه، وكلما تمّ أمر استبان لهم أن الملك يمضي بعزيمة ورشد وتوفيق من الله وعون. ومما لا يُغفل عنه في هذا السياق تلك العناية الفائقة من الملك سعود بالحرمين الشريفين وتوسعتهما، واهتمام الملك بالتعليم سواء بافتتاح الجامعات العامة والمتخصصة بالعلوم الإسلامية والعسكرية وشؤون النفط والإدارة، أو بزيادة عدد المدارس في التعليم العام، مع كثرة إهداء القصور للمؤسسات التعليمية أو لمجلس الوزراء؛ إذ أن المجلس اتخذ من قصر الحمراء أو القصر الأحمر مقرًا له بعد أن أهدى الملك سعود هذا القصر للمجلس، واستمر مكانًا لانعقاد الجلسات من عام (1376=1956م) حتى عام (1408=1988م)، وهذا غيض ذو دلالة من فيض يصعب حصره.

هذا هو الملك سعود الذي كان في شبابه الأول عظيمًا يتوارى في ظلّ وجود أبيه الملك بما له من سلطان وهيبة وحضور تخفت بسببه نجوم الآخرين وشموسهم، وبدأ سعود في التدرج بالمهام الداخلية والخارجية سنة تلو أخرى حتى أصبحت جلّ أعمال الدولة بيديه وتحت توجيهاته قبل وفاة الملك الأب، وبعد رحيل الملك الإمام المؤسس، أبدع النجل الكبير في إدارة دفة الدولة، واجتهد في ذلك، ومنجزاته الخالدة شاهدة على عهده في البنية التحتية، وبدايات التوسع في التعليم والاقتصاد وشؤون الحياة كافة، مع تنامي الحضور السعودي السياسي في الدوائر القريبة والبعيدة، وتعاظم التأثير الاقتصادي عبر منظمة أوبك وغيرها، والمكانة الدينية الباسقة بمناصرة المسلمين والعرب، وخدمة الحرمين الشريفين، والله يجري عليه الرحمة والحسنات وجميع المسلمين.